أرضنا تصلبت، آبارنا صار غورا ماؤها، أشجارنا، أي أشجار ! مجرد جذوع وفروع جوفها العطش ونخرها السوس، جبالنا التي كانت ترفل في ثياب الخضرة ويعممها الغمام أضحت قاتمة مسننة الصخور. سهوب الحلفاء تجردت من عباءتها الصوفية التي أكسبتها إياها الحملان المرعية. هذه السهوب التي تشهد على تهاطل القطع الذهبية من السماء بعد أن هدأت المعركة التي تطاحن فيها المرينيون مع أبناء عمومتهم من الوطاسيين تحولت إلى أرض خراب ، يسمع فيها العابرون ليلا صوت أشباح الرعاة الذين مروا من هناك يتنادون و يتناهرون حتى لا تضيع الغنم ، ويلمحون نار قدورهم تلتمع وإن دنوا منها لم يجدوا لها جذوة ولا مرجل. المنازل التي كانت عامرة والحظائر التي طالما تناطح فيها الغنم والأبقار باتت مهجورة وتهاوت أحجارها وثقبت زوابع الغبار سقوفها الخشبية. واصلنا السير بين الوديان المردومة والهضاب المتسامقة بحثنا عنكم في كل الفجاج . نتقدم بخطوات يتعبها اليأس ويشحذها الرجاء، سألنا عنكم من صادفناهم فكانوا أشد تيها منا. ومنهم من أشار علينا بوجودكم وراء الجبال الشامخات في أقصى جنوب المدينة. تجدد الأمل في لقائكم و استعجلنا المسير إليكم وقطعنا إلى ذلك أشواطا ومراحل قضينا خلالها ليالينا نائمين من تعبنا في العراء، ونهاراتنا نحث فيها الخطو لعلنا نأتيكم قبل أن تغيروا مضاربكم .
مررنا بقلاع قديمة مهجورة تشي مقابرها الكبيرة بالماضي الدامي للتاريخ ، والآن تصفر الريح بين صياصيها المتلاشية ، وأضرحة أوليائها سواها الزمن بالأرض . أرهقنا المسير ولم نعثر لكم على رسم لا في الأعالي ولا في القيعان. نصحنا بعض الهائمين في أرض الله أن نتابع المسير تجاه الجنوب ، مدمأة أقدامنا ووافقناهم الرأي في ذلك عسانا نجدكم في دروب رملية غاضبة تنخ لها النوق من ظمأ . في السبل الصحراوية كنا وحدنا وإن لمحنا في أفقنا شيئا تأكدنا بعد حين أنه السراب. جنون القفر و زيغ البصر من غبار عن الطريق يميل بنا ، والأمل إليكم يلهمنا.
لمحنا الشرور في مقل من صادفناهم من المترصدين بالضالين في الفلاة ، وجوههم متعبة وسمجة ، يلحظون العابرين ويتحسسون أنصالا تلتمع تحت سرابيلهم ، تجاوزناهم بكثير من الوهم والرهبة ، فقط في سبيل لقياكم كل الصعاب تهون . مرت السنون تلو السنين. ولقد طال البحث وطال الرحيل، ولا نجد لكم أثرا ولا إليكم من سبيل. ولا إلى ديارنا نطيق العودة ونحن نحمل إليها خيباتنا وانهزاماتنا والأسئلة الموجعة على كل الشفاه المنتظرة لعودتنا منذ عقد من الزمن . نكسنا الرؤوس ودخلنا إلى بلدتنا في ليلة ليلاء، تشتتنا بين الدروب والحواري نتحسس الجدران خلسة نبحث بين صخورها عن ثغرات نلج منها إلى منازلنا التي ستداري إحباطاتنا حتى نور الصباح . ومع أول آذان للفجر تناهت إلينا جلبة القوافل المستعدة إلى الرحيل . كلمات تصدح لشحذ الهمم وحسن التدبير والتلاحم، تسلل بعضنا ليسأل من لا يعرفنا عن ذلك فأكدوا أن القوم مرتحلون باحثين عن الضائعين وعن... آه ، عنّا!.